مقالات
محمد بكرى يكتب خلق شهرزاد الجزء الثالث
محمد بكري -المصريين بجد
أكثر ما يضجه .. كيف يتذكر ؟ كيف يستعيد الحكايات ودقائق الكلام بعد مرور الحروف من الأعناق ورشق الزمن بالفراغ ! كانت علامات الاستفهام في رأسه تُجز بانتظام وتستبدل بأقراص صغيرة من الحنة تنبت علامات تعجب يمسحها بحرملة الحصان ذو الحوافر الزجاج .. تنقر على جبهته ، خلف الأذن، فيهز دموعه صدقا .. بأن مازال هناك وقت للاستفهام ومذبحة الكلام .. وفي لمحة مضيئة ذُهل من راحة أخرس على الجدار .. ذكرته بطرف قصة انتهت بتوقف الراوي عن القص بظهور النهار ( فبعد زواج الديك الأخير وإقناعه برعاية البيض مع الرقاد .. لم يعد للنهار دليل إلا رأي شهريار ) وفي حكة مفاجئة لعلامة تعجب ذابلة .. وسم الشهداء على حوائط قاعة الكلام يذكرونه بالروايات وما قيل وقال! ومع مرور الوقت ضجت حوائط القصر بقصص الشهداء وجرت مؤامرة خفية لتذكير شهريار بوسيلة أخرى غير دق الرؤوس والأصابع والأفخاذ على الحيطان ..!! حتى سقف قاعة التدبير كان مزدان بشهداء الحب وسيرة سبي الورد الأسود من حدائق الجيران !! فزع الفراغ من قدرة شهريار على تذكر البياض ، رتق الثواني وزخرفة الردهات بشهداء الكلام .. وحده شهريار لم يصبه البلى ! دوامه على البياض وعب الكلام وذبح الرواة منحه عمرا لم تعرفه قوة البياض .. البساطة التي يبدأ وينتهي عندها كل شيء ! أكثر من يرعبه البياض ، الوضوح والصفاء ! يستشعر منه الانقباض ، الامتصاص ، السهولة المطلقة التي ترقى للتساؤل .. لماذا أنت هنا يا شهريار ؟ لماذا لوحدك حق الحذاء وكسر المرايا والزخرفة بالشهداء ؟ من أتى بك يا شهريار لتحول عادية الخلق لفكرة الاستشهاد ؟ لماذا ؟ ومتى ؟ ومن ؟ .. كان شهريار يقطفها دائما من رأسه، يمضغها، يلوكها .. ويبصقها شهدا لحروف المرايا وعيون الأرصاد ! فقط كان البياض عدوه .. البساطة وحدها من تقتله .. من يومها والأبيض ملعون في ( المُدبرة ) دليلا على الخيانة! فاستنبت الأحمر من الدم والأسود من الرعب والأزرق من النيلة والأخضر من الوهم ..الخ فكله مباح .. إلا الأبيض والصمت وسخافات الفراغ عندما يشاطره الاهتمام في تزجية الضيوف !! ( المُدبرة ) تحزمت بسلسلة من عوازل شهريار الذي لم يكتف بعوارض الطرق وجدران المآوي سجلا للكلام الشهيد، وأصبح معلنا أن ( المُدبرة ) قارورة الشهداء ! وشاع في الآفاق ابتكار صاحب ( المدبرة ) لأول سجل يذكر الأحياء بزمن ما فات .. ولو كانت لحظات .. فما دمت تتكلم عليك أن تتذكر .. وهذه عبقرية شهريار.. بمرور الوقت في الجيل التاسع ، أصبحت المُدبرة سجل الأرض .. فلا الناس تتوقف عن الكلام أو يكتفي السجل بالشهداء .. أحد النجباء من جيل الأموات تجرأ على تجفيف اللبن في عين الشمس يصلب عليه الجياد والضواري .. ابتكارا جديدا يعتق الشهداء !! يذكر أحفاد هذا النجيب أن شهريار بعد تجفيف أوصاله على بقايا الزجاج .. أعلن أن الدواب لا تجيد الكلام ورواياتها معادة ولا يلمس فيها الكذب أو النفاق وخالية من العبر والعظات، فلا بديل إذن عن الإنسان ! – يتبع –
Facebook Comments Box