جهاد أسعد تكتب :الرحيل
جهاد اسعد -المصريين بجد
تخطو بخطواتٍ واثقة نحو هدفها ، و في كل خطوة تخطوها بقدميها ، يسقط منها إحساس و يفنى من حياتها ، فقد سقط الحنين ، و سقطت الكرامة ، و سقط الوفاء ، و سقط الكبرياء ، و سقط الإخلاص ، و سقط الإنتماء ، و سقطت الوطنية ، و سقط الحُب .. سقطوا ليُشبعوا أرجاء ” مطار القاهرة الدولي ” بهم ، سقطوا ، لتشعر ببرودة جسدها ، و كأنها تجردت من ملابسها ، و ليس فقط من أحاسيس سكنت بها منذ ولادتها ، و تشعر بدفء كل من حولها ، و كأن تلك الأحاسيس ، أبت أن تسقط أرضاً فتعلقت في قلوب كل من مرت بهم ، فسُلبت الإبتسامة من شفتيها ، و أرتسمت على شفاههم ، تُراها أخطأت ؟ أتجهت نحو سُلم الطائرة لتصعده ، لم تكن بالسمينة ، و لكنها شعرت بثقل جسدها و كأن الجاذبية أزدادت لتلتصق قدميها بالأرض رافضة أن تتحرك ، إلا بصعوبة ، ليتردد ببالها السؤال مرةٍ أخرى ، تُراني أخطأت ؟! هُنا أدركت أنها تقف في مُنتصف سُلم الطائرة ، أو يُمكن أن تُطلق عليه – قاتلها – ، فهُنا قُتلت منذ عدة سنوات ، قُتلت بنار الفُراق ، و أدمت عينيها نار الغُربة ، هُنا سُحقت أحلامها الوردية ، هُنا جاءت و كلها آمال و عادت كالأموات ، جسداً ، بلا روح ، هُنا فارقها حُبها ، و لم تُفارقه ، هُنا إنتهى دربهم ، قبل أن يبدأ .. وقفت تتأمل الأُناس من خلفها ، دائماً ما يُصاحب المطار دموعاً ، تنقسم بين دموع فرح بعودة حبيب ، و دموع ألم لفراق حبيب ، و لكنها لم تجد من يبكيها ، فهي – كالهاربة – لم تُخبر أحداً عن رحيلها ، لا تريد لهم أن يشعروا بما شعرت من قبل .. و من هُنا أيضاً رحل والدها ، ولم يعُد ، و رحلت والدتها و لم تعُد ، كانت تجد الأعذار لوالدتها في عدم عودتها ، فلقد أخذها الموت و لم تكُن لديها رغبة بتركها ، فلقدت وعدتها مُسبقاً أن تعود ، و لم تنقض أمها عهداً مهما حدث .. و لكن للموت أحكام.. أما والدها ، فلم تجد له عذراً أو مُبرراً ، في عدم العودة ، فلقد رأى أن جني المال شيء بالغ الأهمية حتى أن أهميته تفوق أهمية ابنته المكلومة لفراق والدتها – التي لم يستطع والدها حتى حضور عزائها و مراسم دفنها ، و طمئنة ابنته من بعدها ، بل اكتفى بمكالمة هاتفية سخيفه مجردة من المشاعر – لعل الغُربة تُقسي كما يقولون و لكنه من أختار .. عادت لتفكر من جديد أنها تختار الآن أن ترحل هي الآخرى ، تختار أن تُلقي بكل ما يربطها بتلك البلد ، تختار القسوة ، و الجفاء ، و جفاف المشاعر ، و البرودة ، لا ليست برودة الجو بالتأكيد ، إنما هي تختار برودة القلوب ، قلوب تنبُض كالألات ، لا تشعر ، إنسان آلي يضخ الدم للحياة ، فقط الحياة .. خارت قواها ، فأستندت بمرفقها على السلم لتجلس باكية ، فتتذكر كم بكت هُنا ، لكي لا يرحل مالك فؤادها و يتركها تتخبط من بعده ، و لكنه لم يسمع ، و كأنها لا تتحدث ، هو من الأساس لم يُبلغها بسفره ، كاد يفُر هارباً – كما تفعل الآن – و لكن المُصادفة هي من جعلتها تعلم ترتيباتُه كلها ، و تلحق به قبل الرحيل .. أزداد بكائها ، حتى شعرت بكفين تسيران ببُطء على وجنتيها ، يكفكفا دموعها الفائضة من نهر عينيها ، لم تجد إلا صديقها ، لا تعلم ما أتى به إلى هنا ، و لكن عينيه هي الآخرى كانت الدموع تتلألأ بهم ، فقاطع حيرتها مُردداً ” لم الرحيل ، ألا يحتاجُك أحدٍ هُنا ، حسناً ها أنا بحاجةٍ إليك ،لم نكُن يوماً أصدقاء ، و إن كُنت تري ذلك ، فلم أراك يوماً إلا حبيبتي ، كُل من صعد هذا السُلم و رحل ، لم يجني إلا ندماً ، و قسوة ، و كُل من فضل الرحيل لم يعُد ، و أنا لن أتركك للرحيل ” لم تُزدها كلماته إلا إبتساماً ، تُشرق المرأة بكلمات الحُب ، و تُزهر بالتدليل ، فلا تتركها يوماً ، – وحدها ، بدونك – ، لا تدعها تُفكر بالرحيل .. لم تنتهي القصة بعد ، و لن تنتهي يوماً ، فيومياً سنجد مثيلتها على سلم كُل طائرة ، تكاد أن تُقلع ، و ترحل عن أرض الوطن ، حاملة معها أرواحهم المسلوبة ، و ضحكاتهم الممحيه ، و أحلامهم المسحوقة ، و حيواتهم المُنتهية ، سنظل نجد الرحيل حلاً لجميع مشاكلنا ، و لكننا لن نفكر يوماً ، كم روحٍ سنسلب ! ، كم ضحكةٍ سنمحي ! ، كم حلمٍ سنسحق ! ، كم حياةٍ سننهي ! ، برحيلنا .. فكر جيداً ، قبل أن تعد بالعودة – لن تعُد – هل حقاً تُفضل الرحيل ؟!